ثانوية باب الصحراء… عندما مات التلميذ!
بقلم: عبد الجليل بَّيْشا
* تقديم:
أثناء تفحصي دفترا قديما يعود لفترة دراستي بثانوية باب الصحراء بڭليميم؛ وجدت في ثناياه ورقة أعتقد اليوم أنها وثيقة تاريخية تميط اللثام عن حدث هام عرفته المدينة مطلع التسعينات تزامنا مع الغزو الأمريكي-الغربي للعراق، في إطار ما سمي عملية “عاصفة الصحراء”، يتعلق الأمر باقتحام قوات أمنية حرم الثانوية بعد خروج مظاهرة تلاميذية منددة بذلك العدوان إلى الشارع العام كما سيأتي ذكره.
الوثيقة تقرير عن اجتماع بين إدارة المؤسسة و ممثلي التلاميذ لانتخاب لجنة تمثيلية، و هو أول مطلب نادوا به في أعقاب ذلك التدخل، التقرير كتبته شخصيا حيث كنت ممن حضر ذلك الاجتماع، باعتباري عضوا منتخبا عن قسم الثانية أدب 6، في انتخابات ممثلي الأقسام التي أشرفت عليها الإدارة تمهيدا لذات الاجتماع، وهو أول نشاط سياسي أشارك فيه، وأعتقد اليوم أن هذه الوثيقة لم تعد في ملكي، لذا اخترت أن أشاطرها جيلي وأبناء مدينتي و عموم القراء، مهديّا إيّاها إلى شقيقي محمد، فارس ذلك اليوم التاريخي.
و أود بداية التنبيه إلى أنني أنقل التقرير كما هو وبأخطائه اللغوية، مقدما له بسرد الملابسات التي أحاطت بكتابته، ومختتما إياه بتقديم ورقة أخرى مرفقة به.
* 8 فبراير 1991… أو جمعة الغضب:
في صبيحة ذلك اليوم؛ خرجت أول تظاهرة تلاميذية من ثانوية باب الصحراء بمدينة ڭليميم إلى الشارع العام، ولعلها كانت الأخيرة، تنديدا بالعدوان الأمريكي-الغربي على العراق، أو ما عرف تاريخيا بـ”حرب الخليج الثانية”، الهجمة الاستعمارية الجديدة التي لا زالت المنطقة إلى اليوم تدفع غاليا تبعاتها.
كانت “باب الصحراء” الثانوية الوحيدة بالمدينة حينئذ، شيدت في مدخلها الشمالي بداية الثمانينات بتمويل من اليونيسكو أو الإسيسكو كما كان يتدوال حينها، وقد أخذت اسمها من اللقب الذي أطلقه الملك الراحل الحسن الثاني على كليميم التي ظلت إلى نهاية ق. 19م، أهم مستودع لتجارة القوافل الصحرواية التي كانت تربط بين تمبكتو عاصمة السودان الغربي (مالي-النيجر) وميناء الصويرة.
خرجت التظاهرة رافعة شعارات من قبيل “لا إله إلا الله… جورج بوش عدو الله”؛ “صدام يا حبيب… دمر دمر تل أبيب”… ولم تكد تبلغ الشارع الرئيسي حتى اجتاحتها قوات “السيمي والمرود” المستنفر بعضها من مركز بويزكارن بالعصي والهراوات، وبحضور مسؤولين من عمالة المدينة، التي لم يكن مقرها يبعد عن الثانوية سوى بأربعمئة متر على وجه التقدير.
لم يقف الأمر في تفريق المظاهرة عند حدود الشارع العام، بل تعداه إلى اقتحام حرم المؤسسة ومطاردة التلاميذ داخلها وفي محيطها القريب، وخاصة في سفح جبل تيّرت الذي كان يومها أرضا جرداء خالية من أي مسكن.
خلف التدخل حالة هلع كبيرة في صفوف ساكنة المدينة، بسبب الإصابات المتفاوتة في صفوف التلامذة، كان أشدها خطورة إصابة شقيقي محمد الذي كان في مقدمة الصفوف، على مستوى الرأس، بعدما أهوى عليه المدعو ميمون، الكاتب العام للعمالة، بجهاز الاتصال (سونفيل)، تاركا جرحا غائرا في رأسه تطلب رتقه سبع غرز، وسيتم إثر ذلك؛ تنزيل رتبة ذلك المسؤول إلى رتبة باشا وتنقيله إلى مدينة طاطا.
دفعت السلطات فيما بعد إلى تهدئة الوضع وامتصاص الغضب، خاصة بعد أن راج خبر تسليم لائحة باسم ستين تلميذا إلى السلطات الأمنية لتقديمهم للمحاكمة، فاستجابت إدارة المؤسسة لمطلب تشكيل تمثيلية تلاميذية منتخبة، فأشرفت أولا على انتخاب ممثلي الأقسام، قبل أن تحدد تاريخا لانتخاب اللجنة، وهو ما يتناوله التقرير التالي.
* عندما مات التلميذ!
بسم الله الرحمن الرحيم
ثانوية باب الصحراء في: يوم 23 فبراير على الساعة 4:30 (قاعة المداومة)
تم افتتاح الجمع العام بكلمة مدير المؤسسة السيد «البشير النداي»، أوضح من خلالها مسؤولية التلميذ داخل المؤسسة عامة والقسم خاصة، وأكد على وجوب التعاون بين التلاميذ والإدارة، بعد أن أبدى أسفه لوقائع يوم 8 فبراير 1991.
وعن كيفية العمل فقد وضح أن الخطوط التي ستتبعها هذه اللجينة قد تسلمها المجلس الداخلي.
و بعد ذلك تدخل ناظر المؤسسة السيد «محمد الرقاوي»، و أعطى بعض الإضاحات حول طريقة العمل، و منها:
– عمومية الطلب بين اللجينة (في إطار قانوني)
– استشارة الممثلية كلية في الطلب.
و قد اتسم خطاب السيد الناظر بطابعه الوعظي/الإرشادي، إذ أدمج نصائح عدة نذكر منها:
– «لي سبقك بليلة سبقك بحيلة»
– «إلا علمتني بحلاش نصيد الحوت، خير لي من تعطيني كل نهار حوتة»
و الظاهر أن هذه النصائح يدمجها طمعا في استقطاب قلوب التلاميذ إليه.
و إلى جانب التوجيهات ركز السيد الناظر على المجلس الداخلي في خطابه هذا.
و بعد ذلك أمر المدير بالاقتراع -أخذ شخصين من كل شعبة من كل مستوى-. فقامت إثر ذلك همسات عقبتها عبارات الرفض التام من قبل التلاميذ بدعوى أنه يجب وضع القانون الأساسي أولا، وقبل الشروع في الاقتراع.
فتدخل المدير ليأكد عدم ورود أي مذكرة تبين خطوط القانون الأساسي للخارجية، و من أجل تأكيد ذلك أسرع إلى مكتبه ليأتي بأوراق و أخرج مذكرة تمنع القانون الأساسي للخارجية. و تلى إذّاك نص المذكرة رقم 166 الصادرة في يوليوز 1983، و التي تأكد إمكانية انتخاب الداخليين فقط، في بداية السنة الدراسية، حيث يتم اجتماع المنتخبين مع المجلس الداخلي و الإدارة…
و بعد إنهاء تلاوة نص المذكرة، ازدادت حيرة التلاميذ، و تكررت الهمسات بوتيرة متوسطة، أدت إلى تدخل الأستاذ «ڭجمال» و طالب بنقطة نظام، فتم إثر ذلك أخذ كلمتين من كل شعبة بمختلف مستوياتها.
فتقدم المتدخل الأول من الثالثات أدب، فأوضح أن أخذ عنصران من كل شعبة -في إطار الاقتراع- يجعل صوت الممثلية ضعيفا. و أضاف أن جهل التلاميذ بالقانون الأساسي قائم!.
أما المتدخل الثاني «التامك» فأبرز مفاجأة التلاميذ بتدخل الإدارة!. كما استفسر عن الاقتراع الذي سيتم بدون قانون أساسي؟!.
و أما المتدخل الثالث «بنڭليت» فكادت كلمته تلغى بدعوى أنه يجب احترام شرط الإدارة -أخذ كلمتين فقط من كل شعبة- لولا تدخل أحد الأساتذة الحاضرين ليقول: «بما أن هذا اللقاء هو الأول، فلا بأس من خرقه -(الشرط)-.
فأعطيت بذلك الكلمة لـ«بنڭليت»، فطالب بوضع قانون أساسي، وبتخصيص قاعة للممثلية، كما أبرز تراجع مستوى خطاب الإدارة!.
و بصدد مطالبته بوضع قانون أساسي تحدث الأستاذ (؟) و الذي أذن للمتدخل بالكلام، فقال:
– فيما يخص القانون الأساسي: «حتى حاجة ما باينا أو ما واضحة! «…» الإطار مجهول!»
و في نهاية الخطاب دعى الأستاذ إلى التعاون من أجل وضع خطوط هذا الإطار.
و عن الثانيات أدب أعرب المتدخل الأول «البكاي» عن قلقله حول اللائحة التي تضم اسم 60 تلميذا. كما أبرز أن أحداث 08/02/91 وقعت في منطقة حساسة «ڭلميم»، وربط هذه التدخلات بأحداث مدينة أسا.
و عاتب المتدخل الثاني في هذا الباب «أطويف» التلاميذ على عدم استعمال عقولهم في اليوم المشهود. ووصف التلاميذ أنهم مصابون بهستيريا خطيرة. وطالب في الأخير بتحديد أهداف يسير عليها التلاميذ.
و تدخل صاحب الكلمة الثالثة – نشير أنه ليس من اللّجينة- «أعويس» ليتحدث عن انعدام الحصانة، وإلى عدم تواجد وسائل أخرى ثقافية للتعبير تنضاف إلى النادي الثقافي للقراءة.
و على مستوى الأوليات أدب تحدث المتدخل الأول «كماس» عن مقر اللجينة وأكد ضروريتها. كما طلب مهلة حتى يتسنى للتلاميذ التعارف فيما بينهم.
و عن البعد بين الإدارة والتلاميذ تحدث المتدخل الثاني في إطار الأوليات أدب «إيداري»، حيث أوضح مدى هذا البعد، إضافة إلى انتقادات أخرى للإدارة.
و بين المتدخل الأول من الثالثات علوم «حجُّور» بعض المشاكل التي تعترض التلاميذ كما أشار إلى لائحة أسماء 60 تلميذا والمسلمة إلى السلطات. وأشار إلى وضع منهجية يسلكها التلاميذ، وكذا إلى ضرورة التقاء واجتماع التلاميذ فيما بينهم قبل الاقتراع.
* و أثناء تدخله هذا توصل بسؤال سري من الثالثات أدب جاء فيه: «من المسؤول عن تدخل أو اقتحام المؤسسة؟»
* و نشير أيضا أن معظم التدخلات الباقية تعلق مجملها بسبب اقتحام المؤسسة؟ وهل هناك علاقة هذا الحدث بالإدارة؟
* و بعد كل هذه التدخلات انطلق السيد المدير إلى تأكيد ضرورة التعاون بين الإدارة والتلاميذ للوصول بسير المؤسسة إلى ما يرضي، والمحافظة!، وخلق جو ملائم للدروس.
* كما تحدى كل واحد يقول بأن «المدير» هو السبب أو المسؤول عن اقتحام المؤسسة. وأكد أن الاقتحام ناتج عن كسر باب المؤسسة من طرف أولياء التلاميذ.
* و ما أن كاد يكمل هذه الكلمة حتى انسحب معظم أعضاء اللجينة!! ومثل العلميون نسبة 95% منهم.
* و بعد انسحاب هؤلاء بقيت ثلث واحد من الممثلية لتباحث مع الإدارة وعرفت تدخلات بعض الأعضاء بردائتها و اتسمت بالتحدث عن أهداف شخصية للمتدخلين!.
* و قد قررت الإدارة بعد أخذ رأي الذين لم ينسحبوا، أن يُأجل الجمع العام والاقتراع إلى حين عودة المنسحبين بعد إعادة تكوين لجنة جديدة وفق شروط جديدة.
* و علق أحد المسئولين الإداريين على الانسحاب قائلا: «أكتبوا:
مات التلميذ.»
و السلام: بيشا عبد الجليل [مع الإمضاء]
* ما بعد اللقاء:
رفقة هذا التقرير/الوثيقة وجدت ورقة أخرى سَجلتُ فيها أسماء أعضاء اللجنة التمثيلية للتلاميذ، التي تم تشكيلها في لقاء آخر مع الإدارة، خارج الشروط القانونية المشار إليها في التقرير أعلاه، اثنان من أولائك الأعضاء تم اختيارهما دون اقتراع هما البكاي و الكتيف، و البقية تم التصويت عليها في اقتراع مباشر وهم:
– عن الشعبة الأدبية: هباني والترفاس عن الأوليات، و بيشا [محمد] و التبتي عن الثانيات، بوسكري و التامك عن الثالثات.
– عن الشعبة العلمية: حيدرا وقروق عن الأوليات، ولمساكني وبيسون عن الثانيات، وحجوري عن الثالثات.
و أذكر أنه في اليوم الموالي لتشكيل اللجنة؛ سألني زملائي في الفصل عمّا دار في الاجتماع، وحتى لا أطيل في شرح أطواره، نهضت إلى السبورة وكتبت قبل بداية الدرس: “شُكّلت اللجنة فلتدم”.
أكيد أن تلك الأمنية لم تتحقق، فباستثناء مكسب الإذاعة المدرسية وإصلاح وصباغة بعض مرافق المؤسسة، فإن نشاط اللجينة لم يدم سوى أياما قليلة، ذلك أنه في 28 فبراير، وضعت حرب الخليج أوزارها، أما التلاميذ فانشغلوا بعد العطلة الربيعية بإجراء الفروض والاستعداد لامتحانات نهاية السنة.