وسط واقع اجتماعي واقتصادي لا يدعو للتفاؤل، وبعد العديد من الوقائع التي تؤكد أن مؤشر الحريات يتراجع بوتيرة سريعة، لم يعد خيار الهجرة أمرا مؤجلا عند الكثير من المغاربة، الذين جعلوا من فكرة الرحيل أولوية في سبيل بدأ حياة جديدة بعيدا عن وطن يعتقون أنهم عانوا فيه من “الظلم”. ولم يعد أمر مغادرة المغرب مقتصرا على من يرغبون في نيل فرصة عمل أو فضاء أفضل للتحصيل العلمي، بل صار في كثير من الحالات يحمل طابعا “احتجاجيا” صريحا، يتجسد في طلبات اللجوء المعلن عنها صراحة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، الشيء الذي يُفقد المغرب تدريجيا الكثير من طاقاته التي غالبا ما يكون ذنبها الوحيد التعارض مع الاختيارات الرسمية للدولة في المجالين السياسي و الحقوقي.
هجرة من كل الأطياف قبل أيام أعاد الصحافي مصطفى الحسناوي إلى الواجهة موضوع هجرة العديد من الفاعلين المغاربة في مجال الصحافة والإعلام إلى الخارج، بعدما أعلن عن وصوله إلى العاصمة السويدية ستوكهولم، لاستكمال إجراءات طلب “اللجوء السياسي”، مستندا على ملف غير صغير يوثق لما يعتبرها “انتهاكات” في حقه، تشمل محاكمته بقانون الإرهاب و سجنه 3 سنوات ما بين 2013 و 2016، بالإضافة إلى دخوله في مسلسل إضراب عن الطعام احتجاجا على “سوء المعاملة”. و تنبه قضية الحسناوي إلى أن التذمر من الوضع الحقوقي في المغرب ليس نابعا من تيار سياسي واحد، فإن كان الحسناوي معروفا بتوجهه الإسلامي المحافظ الواضح من خلال موقعه “هوية بريس”، فإن هشام المنصوري، الصحافي و الحقوقي المنتمي للصف اليساري، و العضو في الجمعية المغربية لصحافة التحقيق، كان قد سبقه للحصول على اللجوء السياسي في فرنسا. و تشترك قصة المنصوري مع الحسناوي في وصولهما معا إلى الزنزانة، و إن اختلفت تفاصيل الاثنين، إذ كان الناشط في حركة 20 فبراير قد اعتقل سنة 2015 من داخل شقته بحي أكدال بالرباط بتهمة “الفساد و الخيانة الزوجية”، و هي العملية التي قال دفاعه إنها كانت مصحوبة بالضرب و التعنيف اللفظي، قبل أن يحكم عليه بالسجن 8 أشهر حبسا نافذا، في حين ربطت هيئات حقوقية بين ما جرى و بين مواقفه السياسية.
الوصول للباب المسدود لكن الصحافيين والحقوقيين ليسوا وحدهم الذين فضلوا ترك المغرب بعدما أحسوا بأن الأمل في “التغيير” قد وصل إلى الباب المسدود، بل أيضا ذوو كفاءات أخرى في العديد من المجالات، والذين كانوا إلى وقت قريب قبل مغادرتهم يجاهرون بفخرهم بهويتهم الوطنية. و قد يكون أبرز مثال على ذلك الخبير في الشأن الأمني رشيد المناصفي، الذي استقر في المغرب طيلة 11 سنة قدما إليه من السويد حيث كان يعيش، بهدف مشاطرة خبرته في المجال مع مؤسسات بلده، قبل أن يكتشف أن “وزراء ومسؤولين غير أكفاء يسيرون البلد”، وفق ما جاء في رسالة وداعية نشرها سنة 2017، قال فيها أيضا “أنا أمثل العديد من المغاربة المنسيين الذين ملوا من رؤية عدد من الأشياء”. و أورد المناصفي “بعد تفكير عميق قررت طي صفحة من حياتي، أعلن لكم بكل حسرة قرار رحيلي عن أجمل بلد في العالم، المغرب الذي سيظل رفقة الشعب المغربي دائما و أبدا في قلبي وفي روحي”، و أضاف الخبير في علم الإجرام أن ما سرع من وتيرة رحيله “كوني و منذ عودتي من السويد حاولت تغيير بعض الأشياء و العقليات، لكنني كنت في كل محاولة أصطدم بالحائط”. و يبدو أن المغرب قريب من فقدان كفاءة أخرى، في مجال الطب الشرعي هذه المرة، ويتعلق الأمر بالبروفيسور أحمد بلحوس، الأستاذ بكلية الطب والصيدلة بالرباط و رئيس الجمعية المغربية للطب الشرعي، الذي أوقف عن عمله بسبب مساندته لاحتجاجات كلية الطب و الصيدلة، و الذي استثنته وزارة التربية الوطنية و التكوين المهني و التعليم العالي و البحث العلمي مؤخرا من قرار رفع الإيقاف. و انتشرت مؤخرا للبروفيسور بلحوس صور رفقة أطقم طبية من ألمانيا، مرفوقة بتساؤلات حول إمكانية استقراره هناك نهائيا، في ظل ما يعتبره “ظلما في حقه” من طرف الوزارة الوصية عن قطاع التعليم العالي رغم أن قرار المجلس التأديبي كان في صالحه.
واقع غير مطمئن “الهجرة بدافع الإحباط واليأس صارت أمرا واقعا نعاينه في محيطنا الشخصي، فلا يكاد يمر يوم دون أن نسمع عن شخص ترك المغرب بسبب ذلك”، بهذه الكلمات يصف عبد الرحيم العلام، أستاذ العلوم السياسية و القانون الدستوري بجامعة القاضي عياض هذه الظاهرة، التي قال عنها إنها “لم تعد هجرة عادية بحثا عن فرصة عمل، بل هجرة بسبب الخوف”. و نبه العلام إلى أن الوضح حاليا صار “يثير القلق”، إذ “حتى في عهد الحسن الثاني لم نكن نسمع عن هذا العدد من طلبات اللجوء السياسي، رغم وجود معارضين مغاربة كثر في الخارج”، موردا أن الأمر يتعلق بأشخاص “يبحثون عن حرياتهم السياسية في مكان آخر غير وطنهم، و آخرين يشعرون أن حرياتهم المدنية صارت مهددة في ظل توالي مسلسل التشهير و الإساءة وانتهاك الحق في الخصوصية و التنقيب المستمر في الحياة الخاصة للأفراد”. و اعتبر العلام أن “صورة المغرب في الخارج تضررت بسبب هذا النوع من الهجرة، و سيتواصل هذا الضرر ما دامت حالات انتهاك الحقوق و الحريات مستمرة و ما دام الخوف من الاعتقال بسبب المواقف السياسية حاضرا، ولا أدل على ذلك من قيام العديد من السياح الأجانب بإلغاء حجوزاتهم بعد كل حالة مشابهة، و التي صارت أخبارها تنتشر بسرعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي”.
المغرب يخسر أعلنت وزارة الداخلية الإسبانية أن عدد طلبات اللجوء التي توصلت بها من مواطنين مغاربة سنة 2018 بلغت 650 طلبا تم قبول 55 منها، بينما كانت إيطاليا قد توصلت سنة 2016 بأكثر من 1500 طلب لجوء، ما يعني أن هذه الطريقة أصبحت من وسائل الهجرة المستخدمة بكثرة. و يرى الأستاذ الجامعي عبد الرحيم العلام أن المغرب يخسر كثيرا بسبب ذلك، كون أن هذا النوع من الهجرة يشمل في شق كبير منه طاقات مهمة في مجالات الاقتصاد و التعليم العالي و الوظيفة العمومية و غيرها، موردا “أَن يغادر 6000 آلاف مقاول المغرب في السنوات الأخيرة، و أن يهاجر أساتذة جامعيون و رجال تعليم و إداريون نحو الخليج ونحو الدول الأجنبية، يعني أن الوضع غير مطمئن”. وتابع المتحدث “صار المغرب يفقد طاقات عديدة كان يمكنها أن تفيده في البناء الاقتصادي أو في تجويد الممارسة السياسية أو في تحسين وضعية التعليم، وبالتالي في النهوض بمسلسل التنمية، لكن العديد من الكفاءات لم تعد تشعر بالأمان وفقدت ثقتها في المؤسسات الأمنية و القضائية و السياسية، و بخروجها نحو الدول الأخرى تبرهن أن الأوضاع داخليا ليست جيدة”. و أورد العلام أن التنافسية الاقتصادية للمغرب آخذة في الضعف كون أن رؤوس الأموال “جبانة بطبعها، وعندما لا يحس المواطنون بالأمان الاقتصادي فالأولى أن لا يحس المستثمرون الأجانب به”، و يضيف الأستاذ الجامعي قائلا “مغادرة الأطباء و المهندسين و الأساتذة الجامعيين تعني أن المغرب يفقد خيرة أطره، و بما أنه بلد يسير نحو الشيخوخة فإنه سيجد نفسه مستقبلا أمام خصاص كبير و لن يستطيع سد هذا الخصاص باستيراد الكفاءات كما فعلت الدول الأوروبية، لأن تلك الدول تملك الموارد المالية اللازمة عكس المغرب”.