لم يجانب الرئيس الموريتاني الأسبق المختار ولد داده الصواب، عندما قال لخلانه بلهجته الحسانية المعروفة أن “السلطة بطعيمتها”؛ بمعنى أن للسلطة طعم خاص، لا يستطيع أحد مقاومته، حتى و إن أوتي كل رزانة البيظان و رباطة جأشهم.
ولأن “المال هو عصب السلطة” كما قال الفيلسوف العربي الكبير عبد الرحمان بن خلدون في مقدمته الشهيرة، فإن الدكتور محمد المختار الشنقيطي سقط أمام غواية المال، و لم يقاوم إغراءه، عندما باع روحه للشيطان، و منطقه للمصلحة، و عقله للهوى و الغريزة، و هو ينشر بلغته العربية المصقولة مقالا عن قضية الشعب الصحراوي.
إن سحر البيان، الذي يتوسل به من به ضعف في الحجة و البرهان، لا يمكن أن يحجب شمس الحقيقة البتة. لأن الحقيقة لا تحتاج لسلطة اللغة لكي تؤكد وجودها. فهي موجودة هناك، يراها كل من في رأسه عينان. و لأن الدولة الصحراوية حقيقة لا رجعة فيها، فإن خطابا يتيما، مكتوبا بلغة عربية مصقولة، و من بنات أفكار “أكاديمي” معروف، لن يؤثر في قوتها قيد أنملة. فهي واقع لا يرتفع.
لقد فشل الدكتور الشنقيطي في خطابه عن الصحراء الغربية. لأنه ليس على دراية كافية بتضاريس جغرافيتها السياسية، وليس مُلِمّاً كفاية بتفاصيل أحداث تاريخها. و كان توظيفه للخطاب الإسلاموي القومجي ممجوجا، حول لغته إلى لغة خشبية منخورة من الداخل.
فأن يقول مثقف موريتاني إن الحل الأمثل للصراع في الصحراء الغربية، هو تخلي الصحراويين عن مطلب الاستقلال، و الانضمام النهائي للمغرب. لا يدرك أنه بهذا التمني، يتمنى أن يحيي ابتلاع المغرب لإقليم الصحراء الغربية، رغبته في ابتلاع موريتانيا.
قد يتساءل صاحبنا ما الذي يدفع المغرب لذلك و هو يعترف بموريتانيا دولة ذات سيادة؟
نقول له أن من بين الأسباب التي دفعت موريتانيا للقبول بالتوقيع على اتفاقية مدريد الثلاثية القاضية بتقسيم إقليم الصحراء الغربية، هو تعهد الحسن الثاني للمختار ولد داداه بإسقاط المطالبة بموريتانيا باعتبارها أرضا مغربية نهائيا من خطابات المملكة في المؤسسات الدولية.
ونذكر الدكتور الشنقيطي أن موريتانيا كانت ترفض مطالب المغرب بالصحراء الغربية. لأن القيادة الموريتانية آنذاك، عندما لم يعترف المغرب باستقلال موريتانيا حتى بعد انضمامها للأمم المتحدة، كانت ترفض مطالب المغرب بالصحراء الغربية، باعتباره نوعا من الضغط على المغرب لنزع اعترافه باستقلال موريتانيا. وعندما فهم المغرب الرسالة جيدا. فإن الثمن السياسي الذي دفعه المغرب لموريتانيا، كان هو قبول هذه الأخيرة بالشراكة في عملية احتلال الصحراء الغربية. مقابل اعتراف المغرب بموريتانيا و اسقاط مطالبه بإعادتها إلى “حضن الوطن المغربي الأم” بشكل لا رجعة فيه.
إن هذه الحقيقة المذكورة في كتاب الديبلوماسي الإسباني خايمي دي بينييس “تصفية الاستعمار بالصحراء الغربية”، تبين أن موريتانيا ليست سوى نقطة ضمن الأجندة الاستراتيجية للمملكة المغربية. و هو ما يدفعنا للقول أن ابتلاع المغرب للصحراء الغربية، كما يريد الدكتور الشنقيطي، سيحيي أطماع المغرب في ابتلاع موريتانيا. التي سيعتبرها امتدادا جغرافيا طبيعيا ل “المجال الحيوي” للمملكة المغربية. وبالتالي فإن مقترح الدكتور الشنقيطي يظهر جليا أنه خطر استراتيجي على موريتانيا نفسها. فعقلاء موريتانيا يدركون أن الدولة الصحراوية المستقلة و السيادة على كامل ترابها الوطني، تعتبر مكسبا استراتيجيا للدولة و الشعب الموريتانيين. ما دامت الثقافة و التاريخ و الهوية البيظانية، عواملا ستلعب دورا حاسما في تيسير عملية التواصل السياسي بين البلدين. إضافة إلى أن استقلال الصحراء الغربية سيغير الخارطة الجيوسياسية بشكل جذري، و سيدفع المغرب لإعادة النظر في أولوياته الاستراتيجية، التي سيسقط منها حتما أولوية تحويل موريتانيا لحديقة خلفية لاقتصاده، و مخدراته، و مجموعاته الإرهابية العابرة للحدود.
إن رفع الدكتور الشنقيطي لشعار وحدة الأمة العربية الإسلامية، أثناء صياغته لتصوره للحل في الصحراء الغربية، لم يكن إلا من قبيل دس السم في العسل. لأن النخب السياسية الموريتانية التي استقبلت وزير خارجية الدولة الصحراوية، تدرك أكثر من الدكتور أبجديات المصالح العليا للدولة الموريتانية. فتلك النخب التي ذكرها الدكتور بالاسم لا تمثل نفسها، بل تمثل فئات واسعة من الشعب الموريتاني. واستقبلت السيد محمد سالم ولد السالك بصفته وليس بشخصه، باعتباره مبعوثا لرئيس دولة مؤسسة للاتحاد الإفريقي، الذي تعتبر الدولة الموريتانية عضوا كامل العضوية فيه.
و لا يحق بالمحصلة أبدا للشنقيطي أن يملي على الصحراويين كيف يقررون مصيرهم. ولا يحق له الانتقاص من ذكاء وفطنة السياسيين الموريتانيين، حتى يملي عليهم صيغة التعامل مع مبعوثي الدولة الصحراوية.
لا يسعنا الوقت ولا المجال لكشف تهافت خطاب الدكتور الشنقيطي، بوقوفنا على كل فكرة من أفكاره، وتفنيدها بالأدلة من التاريخ والمنطق. ولكن خوضه في نزاع الصحراء الغربية، كشف عن حقيقة كيف يمكن للمال أن يحجب الرؤية عما كان يعتقد كثير من الناس ألمعيتهم. و أن تسقط الأخلاق من تصورات من كان يحاضر عن ضرورة تفعيل الأخلاق في الممارسة السياسية. و أن يصل الأمر بمثقف أن يتحول لدمية في يد من يدفع أكثر.
وفي الأخير أدعو الدكتور المحترم الشنقيطي أن يقرأ كتاب “نظام التفاهة” للفيلسوف الكندي آلان دونولت، ليرى نفسه من خلاله. ويعرف كيف يمكن لجاهل تافه يملك المال، أن يمارس سلطته على عَالِمٍ يملك المعرفة. ويتحول هذا لوسيلة لتعزيز نظام التفاهة، بدل أن يكون مصدرا للنور و الحقيقة.